حسين خوجلي يكتب.. عهد الأمراء (هل من عودة تاني أم هي مستحيلة
كانت مجالس المؤانسة المفتوحة بأمدرمان لا تخلو من ذكر سيرة العبادي في الشعر، والطيب السراج في اللغة، وابراهيم عوض في الغناء، والأمير صديق منزول في الرياضة. ولأن الرواة كانوا يغالون في ذكر نوادرهم وغرائبهم خاصة نوادر وغرائب وعبقرية الأمير، ولذا فما من شخصية تمنيت أن ألتقيها كفاحاً مثل شخصية الأمير صديق منزول كابتن الهلال المشهور والفريق القومي السوداني.
وما كنت أظن أنني سأجد هذه الفرصة خاصة وقد علمت من أهل الرياضة أن الرجل قد انقطع عن المجتمعات، واعتكف بمنزله البعيد بالعمارات وحيداً لا يزور أحداً ولا يلتقيه إلا قلة من أصدقاء ذلك الزمان المليح، لكن الأيام لا تخلو من السوانح المباركة والمعجزات فقد زرت يوماً الموسيقار عبد الله عربي الذي كان يرقد حينها في بداية التسعينات طريح الفراش لعلة أصابته -ومن كرم الرجل علينا أنه قد وافق بالعمل معي في بداية التسعينات مديراً ماليا بمجموعة المساء للانتاج الاعلامي بعد ذهابه للتقاعد. وكان حظي عظيماً حين هاتف صديقه صديق منزول قائلاً: يا أستاذ صديق حسين خوجلي الآن معي بالمنزل. وقد كان فرحتي بلا حدود *ودهشتي عظيمة حين دخل علينا الأمير بقامته المديدة وإطلالته المبهرة*.
*كان رغم كر السنوات مليئاً بالحيوية والوسامة والكبرياء* *سلم علينا بأدب وجلس قائلاً: إنني يا أستاذ حسين لا أفوت حلقة من حوارات أيام لها* *إيقاع خاصة حواراتك مع الكابلي وأبو آمنة حامد وسبدرات وأمين حسن عمر وصلاح أحمد ابراهيم*.
*قلت له : هذا شرف عظيم لي يا أستاذ ووسام فخر سوف أحدث به الآخرين.*
قلت له: يشرفني يا أستاذ أن أُجري حواراً معك استمتع به أولاً ويستمتع به ملاييين السودانيين الذين يرتجون طلتك وثقافتك وذكرياتك التي تذكرهم بسودان العراقة والعنفوان والتطلع صوب المستقبل.
قال لي بطريقته الساحرة الساخرة: هل شاهدتني وأنا ألعب بالهلال أو الفريق القومي؟
قلت: لا
فقال بطريقةٍ قاطعة: إذن لا جدوى من الحوار
رد عليه الموسيقار عبدالله عربي بلطف ليسهل مهمتي في الحوار انت يا الأمير قايل حسين دة ود متين؟ لم يعلق على استدراك عربي والتفت إلى الفنان قميحة الذي كان يزور الفنان عربي وهو يحتضن عوده في تحنان قال الأمير متسائلا بصرامة: هل تغني للكبار؟
قال: نعم يا كابتن، وهل تحفظ لعبد الحميد يوسف؟
قال في أدب: بالحيل
فقال الأمير: إذن أسمعنا غضبك جميل زي بسمتك.
ولم يخذلنا قميحة عليه الرحمة وغناها بتطريب مشوق وعزف العود بتجويد كأنه يطلق علينا معزوفة اولكسترا كاملة. وبعد نهاية الأغنية مسح الأمير دمعة متسللة جاهد كثيراً حتى لا نراها، ولكنها غافلته فرأيناها وضيئة كالبدر في ليلة التمام.
قلت له: أنت تأبيت علينا يا كابتن بالحوار فلا تحرمنا من سؤال واحد أرجو من كل قلبي ألا ترفض إجابته
فقال بحدة رفيقة: واحد فقط لا غير.
*قلت له: أنت يا أستاذ صديق أمدرماني تعرف تاريخها السياسي واقتصادي ضليع بالمراجع العام ورياضي مطبوع بالهلال والفريق القومي وعبر هذه التجارب والمعارف ماهي النصيحة الجامعة المانعة التي تصلح للسياسة والاقتصاد والرياضة؟*
هنا وقف وهو يهم بالخروج حتى ظننت أنه لن يجيب ولكنه رد بصوت فيه زهوٌ وهتاف: *(إن أردتم مجد السياسة والاقتصاد والرياضة في هذه البلاد التي لم تكتشف بعد، فعليكم ببناء دفاع فولازي لا يخترقه عدو بالخارج ولا عميل بالداخل، أما الرماة فهم على قفا من يشيل)* وانسرب خارجاً في هدوء وكانت كلمات الوداع تطرق أذاننا مع صوت إغلاق الباب العتيق. وافترقنا وفي خاطري حكاية الدمعة والإجابة حين نعى الناعي رحيل الأمير.
*أما المتن والحاشية هذه اللقطة النادرة التي هي في مظهرها ومخبرها تكشف عن أصالة هذا البلد العظيم، وهذا الشعب الصامد الصابر الذي حتماً سيقف يوماً تحت شمس المجد مباشرةً دون مساعدة كتشنر القديم أو
فولكر الجديد