البوني يكتب: لو عاوزين تعمروا الخرطوم.. مائة يوم في القاهرة (٥)
لو عاوزين تعمروا الخرطوم…
مائة يوم في القاهرة (٥)
عبد اللطيف البوني
القاهرة من ناحية بنيات اساسية كشوارع وكباري وانفاق ودورانات و ميادين ومباني وكل الذي منه تضاهي أرقى المدن الأوروبية و الخليجية… مع العلم ان مصر فقيرة في مواردها الاقتصادية وفي نفس الوقت تعاني من كثافة سكانية عالية فمن أين للقاهرة ذلك المظهر المبهر والتطور المذهل.. دون شك انه من القدرات البشرية التي تخطط وترسم وتنفذ وهذا ارث مصري قديم قدم تاريخها… فمصر لم تشهد في تاريخها الضارب في القدم مجاعة مثلها مثل الصين في هذا…. اكتظاظ سكاني وعدم مجاعة في حين ان هناك دولا شهدت موجات من المجاعات رغم قلة سكانها وكثرة مواردها.. مصر من دول العالم الثالث ولكن مدنها وخاصة القاهرة من مدن العالم الاول… ولم نسمع فيها بصراع المركز والهامش… فالريف المصري يمضي هو الاخر بخطوات ثابتة.. يفسر علماء السياسة ذلك بما اصطلحوا عليه باسم المدرسة السلوكية في التطور Behavourism والتي فحواها ان شرط التقدم ليس معطيات الدولة الصلبة من موارد طبيعية.. وكثافة سكانية.. وتنوع مناخات.. امتداد مساحة.. وقدرات عسكرية… ويضربون لذلك مثلا باليابان… ويمكننا إضافة مصر مع الفارق طبعا في التقدم التكنولوجي فاليابان في العشر الأوائل من حيث الصناعة والعشرين الأوائل من حيث قوة الاقتصاد.. فالجامع بين مصر واليابان تلك المدرسة المشار إليها هو التطور ولو كان نسبيا مع قلة الموارد….
لفت نظري في تطور القاهرة خلو شوارعها من العربات الفارهة العالية ذات الدفع الرباعي … اقصد بذلك البكاسي اخر موديلات والعربات البترقش … أجزم بأنني لم أشاهد في شوارع القاهرة عربية برادو الا مرة واحدة عندما زرت صديقا يعمل في منظمة دولية مقرها القاهرة… فالبرادو التي يمتطيها ليست ملكه ولا ملك مصر… واجزم بأنني لم أشاهد اي بوكسي دبل قبين ولا أوباما ولاحتى ما اسميناه نحن في السودان ليلى علوي ولا مرسيدس شبح.. ولا اي من تلك الفواره التي كانت تغني لها البنات في الخرطوم (سجل لي عماراتك سجل لي عرباتك)واذكر ان شاعرنا العظيم محمد المكي إبراهيم ومع قلة نثره كتب مقالا في صحيفة ظلال قال فيها ان العربات الفارهة في شوارع الخرطوم خلبت الباب بناتنا (المعنى واضح) وليتها وقفت عند البنات فالحكومة بوظت بها الوظيفة العامة وجعلتها مغنما وبعد الحكومة جاء حميدتي وبوظ حتى الإدارة الأهلية.. ولا أصلها بايظة؟ هذا قبل أن تستباح الخرطوم والبلاد عامة وتلحق أمات طه..
أن عدم مشاهداتي الشخصية لتلك الفواره لا يعني عدم وجودها فمن المؤكد انها موجودة ولكنها قليلة وبالتالي يمكن أن نحكم بأنها تشكل نسبة قليلة مقارنة مع الحديد الذي تكتظ به القاهرة.. فاذن الذي يتبادر للذهن هو أن الطبقة الرأسمالية في مصر (البرجوازية العليا) لاتضيع اموالها في الفارغة والبوبار (شلة قاسم فارغة وبوبارة) وبهذة المناسبة علقت الفنانة كاشا النيل صاحبة اغنية (نقل الموية من البيارة… عواسة الطرقة بملاح كرارة) والتي تناولناها في المقال السابق على ذلك المنشور في صفحتي تعليقا جميلا وشاكرة تناولنا لاغنيتها وما كنت اعرف انها صاحبة تلك الأغنية من قبل…
عودة لموضوع العربات الفواره التي كانت تكتظ بها شوارع الخرطوم الخربة والتي كانت تتفاخر بها الطبقة الرأسمالية الطفيلية والتي امتلتكها من نشاطها الحرام في بيع العملة والمضاربة في العقارات وغسيل الأموال وكل تلك النشاطات التي اوردت البلاد مورد التهلكة… والحق الذي يجب أن يقال ان الحكومة هي ضاربة الدف في هذا الأمر… فهي المستورد الأول لهذا الصنف.. نعم صنف.. فالجيش الجرار من الدستوريين في العاصمة والولايات… والوظائف العليا في الخدمة العامة بشقيها العسكري والمدني… كلها كانت تخصص لها تلك العربات التي تجغم البنزين جغما إذ كانت الدولة أكبر مستهلك للبنزين… مش كده وبس عندما يترك الواحد الوظيفة ذات المخصص ياخذ معه السيارة التي كانت مخصصة لها.. ان ما صرف على تلك العربات ومستلزماتها أكبر بكثير من الذي صرف على التنمية والخدمات من صحة وتعليم والذي منه… فالضرر من هذه العربات ليس مزدوجا بل مركبا… اقتصادي واجتماعي وسياسي .
الان هذة العربات الفواره راح معظمها في خبر كان… فقادة الدعم السريع الميدانيين كانوا يموتون فيها فكأن حربهم كانت من أجلها.. ولن نقول مع ابي نواس (لن ازود الطير عن شجر بلوت المر من ثمره) … فالخراب لا يعجب الا البوم… ولكن نطالب الحكومة ان تمسك يدها ويد الدولة ويد الطبقة الطفيلية عن ذلك النوع من العربات… لكي تذهب الأموال المجمدة فيها للتنمية والخدمات التي ينشدها المواطن… فإذا أردنا إعمار البلاد أو أن شئت قل إعادة الأعمار (ياربي هل كانت عامرة؟) علينا الكف عن استيراد هذة العربات ولتبدا الحكومة بنفسها وتحجم ملكيتها لها الي أقصى درجة… قال ايه قال المعتمد يحتاج إلى عربية قوية وعالية لانه يعمل في مناطق وعرة… بالله المعتمدين كانوا شغالين شنو غير الخراب والدمار… والله العظيم ضابط إداري في اسكيل بي كان يدير الخدمات في منطقته بصورة احسن من الوالي نفسه .. على الحكومة ان توقف استيراد هذة العربات فحكاية انها تفرض عليها جمارك تصل إلى الالف في المائة كانت مدخل فساد بالف في المية.. ليست الفواره وحدها بل حتى السيارات المتواضعة يجب إعادة النظر في استيرادها… ولنتجه لمواعين النقل العام من بصات وحافلات الي مرحلة مانسميه بالشرائح والهايسات… ونعيد الغناء القديم (سايق العظمة سافر خلاني وين) و(يا اللوري عليك الرسول بوري) و (ياسايق الفيت)… فقبل العاصمة الإدارية كافحوا هذا الوباء السياراتي