عبد اللطيف البوني: يكفي النيل أبونا.. النيل دا حده وين؟

2

يكفي النيل أبونا.. النيل دا حده وين؟
مائة يوم في القاهرة (٦)

كتب – عبد اللطيف البوني
من الكلمات المتداولة بمعدلات عالية في القاهرة كلمة (لوكيشن) Location وهي تعني الموقع في خارطة المدينة حسب (قوقل ماب) وقد تبناها السودانيون بسرعة.. الواحد قبلما تكمل سلامك عليه يقول ليك أديني اللوكيشن بتاعك.. فالناس هنا تجاوزت حكاية.. وانت في الشارع الرئيسي تلقى دكان قدامه شوالات فحم.. تخليه على يمينك.. تدخل أول زقاق يلاقيك.. تعاين قدامك بتشوف ليك مزيرة فيها ثلاثة ازبار ألفي نص مكسور …… وما فيها ( كوز) مربوط.. بس اقيف جنب المزيرة دي واسأل من البيت… في زول مدروش كده دارع ليه مخلاية في كتفه بتحاوم بي هناك.. دا ما تسأله لانه بتوهك.. وهكذا.. ففي القاهرة أول حاجة تعملها تنزل التطبيق بتاع الخارطة دي ولو كنت مثلي قادي تقانة استعن بمن هو أصغر منك سنا لأنه اكثر منك علما.. وبهذا تطلب سيارة الأجرة (عندنا ترحال) وبه تعرف أي مكان توده حتى ولو كنت راجلا..
قمة الرفاهية في التنقل داخل المدينة تتم عبر هذا التطبيق.. فأنت تطلب عبره سيارة الأجرة.. وتحدد عبره المكان الذي تريد.. فتأتيك السيارة في مكانك.. وتأتيك أجرة المشوار ونمرة السيارة القادمة إليك ولونها..
الضرب الثاني من المواصلات العامة الباصات الكبيرة سعة الأربعين راكب وما فوق.. وهي تغطي كل المدينة وبشكل مستمر فليس هناك آخر محطة وستات شاي والذي منه.. الضرب الثالث هو المايكروبصات اي ما نسميه نحن الهايسات أو الشرائح.. هذه لها مواقف رئيسة وتعمل في الطرق الفرعية وداخل الأحياء َهنا يمكن أن تضيف إليها التكتك أي الركشة.. وهذه الهايسات تتيح للراكب أن يركب أكثر من مرة ليصل مبتغاه خاصة إذا كانت وجهته بعيدة.. أما ملك المواصلات فهو السيد المترو.. حيث السرعة وروعة التنظيم والنظافة والأمان وقلة الثمن..
أما الأسعار فهي متفاوتة جدا فالأعلى هو الضرب الأول أي الطلب والأدنة هو هذا الأخير أي المترو… هل تصدق لو قلت لك مكانا واحدا اتردد عليه أدفع ١٧٠ جنيها في حالة الطلب و٤٠ جنيها إذا ركبت المايكروبصات زائدا تكتك… و١٥ جنيها في حالة الباصات الكبيرة وثمانية جنيهات في حالة المترو ومرات أربعة جنيهات لأن عمري فوق الستين ومعي بطاقة تثبت ذلك.. فأنت تختار على حسب وضعك المالي وقدرتك على التنقل ووقتك..
قصدت من كل ذلك السرد الطويل المسيخ القول أن التنقل داخل القاهرة فيه خيارات متعددة (من ١٦٠ إلى أربعة جنيهات).. وهذا لا يقتصر على المواصلات بل الخبز كذلك فمصر أكبر مستورد للقمح في العالم ولكن لن تجد فيها أزمة خبز بل هناك وفرة وذلك لتعدد الخيارات.. فالنوع الفاخر قطعة الخبز فيه بجنيهين والخبز المدعوم الرغيفة بنصف جنيه.. وبينهما أبو جنيه نص ثم أبو جنيه… بالمناسبة السودانيون يتعاطون هذا الخبز المدعوم بكل يسر.. لذلك فهو في متناول الجميع وعلى ذلك قس.. كل المأكولات والمشروبات متفاوتة الأسعار.. وقد طبقت ذلك على كباية الليمون بالنعناع وهي مشروب شعبي منتشر… فتعرفت على سعرها في الفنادق الفخمة ثم في المقاهي الراقية.. ثم المقاهي الشعبية.. ثم الباعة المتجولين.. وأخيرا في المنزل.. فوجدت أن لها عشرة أسعار تبدأ بمائة وعشرين جنيها إلى أن تصل تكلفتها في المنزل جنيه واحد..
مصر أصبحت المنتج الأول للتمور في العالم.. وقد أحصيت منها أكثر من عشرة أنواع.. تتفرج بس على جمالها.. وفي المانجو أصبحت الدولة رقم ثلاثة… وقد احصيت خمسة أنواع منها يترواح السعر من ١٥٠ جنيه للكيلو إلى ٣٠ جنيه للكيلو يعني سعر كيلو واحد من صنف يمكن تشتري به خمسة كيلو من صنف آخر وكله منقة تغني عليها البلابل (لون المنقة يا الشايل المنقة) أو النعام آدم (منقة كسلا حلو وصافي لونا تومتي بريدا وغرب القاش سكونا) وهكذا الأمر في بقية الفواكه من عنب وكمثرى وتفاح وموز و.. و.. وكذا الحال في الخضروات من طماطم وخيار و… و…
السكن أو المساكن ليست بعيدة عن تلك التعددية ففي بعض المناطق يصل الإيجار الي أرقام فلكية وفي بعضها تجد الإيجار الشهري ثلاثة آلاف جنيه وفي رواية هناك أقل قبل انكسار السودانيين على مصر..
إذن يا جماعة الخير هذا التنوع الذي يعطي الخيارات المتعددة للمستهلك حقيقة من حقائق الوجود في القاهرة.. قد جعل العيشة فيها سهلة ومتيسرة لكل الطبقات.. فالقاهرة مدينة طبقية دون شك فعلي حسب علمي ومشاهداتي للإعلام خاصة الدراما المصرية هناك طبقات تعيش وكأنها في أغنى وأغلى وأرقى مدن العالم.. بالتأكيد هناك طبقات يسحقها الفقر سحقا.. ولكن نحن هنا نتكلم عن الطبقة الوسطى العريضة والتي تشمل أكثرية المصريين وهي طبقة مرنة يمكن الصعود منها الي الأقلية الفوق… أو النزول منها الى الأقلية التحت فالمنافسة حادة جدا في مصر وأظن من هنا أتى التجويد والاتقان والحذر.. فاقل دقسة سوف تجد نفسك خارج الشبكة مهما كانت مهنتك أو صنعتك… حتى ولو كنت بائع عنكوليب.. هذه الطبقة الوسطى هي التي ترسم الحياة والمستقبل في مصر لما لها من حيوية..

إن وجود الخيارات المعيشية المشار إليها أعلاه هو الذي منح هذة الطبقة الاستقرار والأمن والأمان بصورة مجملة.. وبالتالي يحق للمصريين أن ينعموا ويفخروا بوطنهم يحبونه لدرجة العبادة.. ونسأل الله أن يديم عليهم هذه النعمة ونسأله كذلك ان ينعم علينا بها..
هذه الخيارات لا يمكن أن تأتي بالصدفة فلاشك أن وراءها عقلية فكرت وخططت ونفذت ثم تابعت… ليس هذا فحسب بل من المؤكد أن التجربة قد أفرزت دروسا وعبرا لا بل ونظريات.. وبما أننا في السودان الأقرب لمصر والآن بعد الحرب أصبحنا الأكثر احتكاكا بها.. فما الذي يمنع من نقل التجربة إلينا؟ إلى متي تقف الحواجز النفسية والسياسية بيننا وبين المصريين؟ يكفي النيل أبونا دي حدها وين؟ إلى الذين يتكلمون عن إعادة إعمار البلاد أو حتى الذين ينادون بالبناء من جديد باعتبار أنه لم يكن هناك عمارا قبل الحرب.. لماذا لا تستعينون بالتجربة المصرية؟ هاكم اللوكيشن دا.

whatsapp
أخبار ذات صلة