ديارُ محبة .. ضياء الدين بلال !!
-1-
رحلَ الأستاذ فضل الله محمد بذاتِ الطريقةِ التي عاش بها، هدوءٌ وهمسٌ وليلٌ وشتاءٌ وكثيرٌ من المحبين وقليلٌ من الأصدقاء.
كانت الساعةُ على ميقات الفجيعة تُقاربُ الواحدة صباحاً بمقابر حلة خوجلي .
جمعٌ من أصدقاء العمر ورفاقِ الدرب، وأسماءٌ على شواهد القبور، رحلتْ إلى الضفة الأخرى من العالم.
كنا نراه من على البعدِ صارمَ القسماتِ يضع حواجزَ بينه والآخرين، قليلَ الكلام نادرَ الابتسام، في عينيه وَجَسٌ وحزنٌ وقلقٌ، يخبو ثم يعود.
وما إن تأتي إليه ويطمئنُ لك تذوب تلك الحواجزُ مشاعرَ وجداولَ عذبة، لتكتشف نبعاً من لطفٍ وودٍ وسخريةٍ هامسة، لا تجرحُ خاطراً ولا تمسُّ بسوءٍ مشاعرَ جليسٍ أو بعيد.
-2-
سافرتُ معه مراتٍ عديدة في زيارات عمل، كانت أروعُها حينما اجتمعنا على مائدة غداءٍ بفندق الحمراء بجدة .
جمعنا المجلسُ مع فضل الله وأستاذ الأجيال ومعلم الأعلام بروفيسور علي شمو، وبدأ الحكيُ وأحاديثُ الذكريات.. مايو والنميري والأيامُ الأخيرة وغدرُ التلاميذ وخذلانُ الأصدقاء :(يا فضل الله اطلع برا)!
نميري يتسكعُ بين مقاصلِ العدالة العمياء والبحثِ عن يقينٍ صوفي في أم ضوبان.
-3-
عندما يتحدثُ فضل الله تصغِي إلى حديثه فتجد متعةَ الحكي وروعةَ السرد وطرافةَ المواقف.
أكثر ما يميزُ فضل الله في ونسته وشعره تلك الطرافةُ المعتقة، طرافةُ وطلاوةُ (أولاد مدني).
ود أزرق والعشيرُ والسوقُ الكبير وشعرُ المساح وعبقريةُ الكاشف وإبداعُ ثنائي الجزيرة وأنينُ محمد مسكين وكراماتُ الشيخ السني ونوبةُ شيخ شاطوط وفولُ أبو ظريفة وسمكُ جاد الله والتاكسي الأحمر وحدائقُ أم بارونة وسينما الخواجة.
وهتافاتُ الإستاد (قلد دينمو مولد )، وخشبة مسرح الجزيرة (مدني السني أمشي وأغني).
ولمدني السني أرضِ المحنة في وجدان فضل الله مدٌّ من الشوقِ والإلفةِ لا ينضبُ وحنينٌ لا ينقطع، فهي أحبُّ اليه من (الحبيبة) وأقربُ إلى قلبه من كل عزيزٍ: (ولا أسيبا مدني وأجي أسكن حداكا)
-٤-
تشبيهاتُ وصورُ فضل الله محمد نادرةٌ وأخَّاذةٌ ومفاجئةٌ بوقعِ العطر ولسعةِ الزنجبيل، وضحكةِ سامرة على شفاهِ الحزن:
بحب يا دنيا مغمور بالأمل
سعيد فى حبى.. لا صد.. لا زعل
مشاكلى بسيطة.. بالريدة بتحل
وعندى حبيبة اشقى.. واسعدها
عيش للحب.. وازرع كل خير
يفرهد بكره بستانى النضير
عواطف سامية.. اشراقات.. ونور.
فى حب يا اخوانا اكتر من كده؟
ما بين السؤالِ والتشبيهِ وتتابعِ الصور وحسِّ الفكاهة تتجلى روعةُ الشاعر وعذوبةُ منابعه الصافية.
منابعُ لم تتلوث بدَخَنِ الحياة وهَمِّ المعيش وكيدُ السياسة وغلُّها:
ليك حق دنياك خالية … لا بتشيل هم لا بتتعب….
كنت تتعلم تجامل .. لو فؤادك مرة جرب … إنو ما يدق … دقة واحدة إلاّ ويتفجر حنين …
يفتح قلوبنا ديار محبة … ديار حياة للعائدين. ….
-5-
شعرُ فضل الله يكتبُ بروحِ القصة القصيرة ويرسمُ بريشةِ فنانٍ حاذق، هو همسٌ في أذنِ الحبيبة وسمرُ أصدقاءٍ وأحبةٍ ما بين الرملِ والماءِ وضوءِ القمر.
رحل فضل الله الشاعرُ والصحفيُّ والإنسانُ وأنزل الستارَ على قصةِ حياةِ إنسانٍ عاش على طريقته ومات عليها:
لا لا ما بنقبل نسيبك تمشي للوحدة وتعاني
برضو ما بنقدر نقاوم شوقنا من بعدك ثواني
وما بنغني وراك كلمة وما بنشوف البهجة تاني .