وزير المالية السابق ابراهيم البدوي يكشف في بيان أسباب استقالته من حكومة حمدوك

2٬071

الخرطوم “تاق برس” – كشف وزير المالية السوداني المستقيل إبراهيم البدوي، تفاصيل ووملابسات استقالته التي دفع بها إلى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في الأيام الماضية.

وقال البدوي في بيان مطول أنه كتب هذه التفاصيل استجابةً لرغبة ملحة عبّر عنها الكثير من أبناء الوطن لمعرفة دواعي ومُلابسات مُغادرته حكومة الثورة الانتقالية.

ينشر “تاق برس” نص بيان وزير المالية السابق…

بيان صحفي 19 يوليو 2020 الدكتور/ إبراهيم أحمد البدوي وزير المالية السوداني السابق

“انَّا عَرَضنا الأمانة على السمَاوَاتِ وَالأرضِ وَالجبَالِ فأَبَين أن يحمِلنَها وَأَشفَقنَ منهاَ وحمَلها الِإنسَانُ ۖ إِنهُ كانَ ظَلوُمًا جهولاً) اأحزاب 72.

1. يأتي هذا البيان كاستجابة لرغبة ملحة عبّر عنها الكثير من أبناء الوطن على اختلاف مشاربهم وتوجاتهم السياسية والفكرية لمعرفة دواعي وملابسات مغادرتي حكومة الثورة الانتقالية وفي هذا الظرف بالذات، خاصة بعد نجاح مؤتمر الشركاء في الخامس والعشرين من يونيو واختتام مفاوضات البنّمج المتُابع من قبل منسوبي صندوق النقد الدولي (IMF Staff Monitored Program: SMP) والذي، بإذن الله، سيشكل قناة العبور لآفاق إعفاء ما يناهز 60 مليار دولاراً من الديون الخارجية وإعادة تأهيل البلاد للاستفادة من منح التنية الدولية، حيث يمكن لبلادنا وقتها الشروع في إنفاذ برنامجها الوطني للتنمية المستدامة ومكافحة الفقر وبناء السلام.

أرجو الإفادة بأن هذا البيان لا يهدف لتسجيل موقف أو الغمز من قناة أياً كان، بالرغم من التلميحات بأن قبول الاستقالة مرتبطٌ بتقييم للأداء، ولا أدري المعايير التي استند إليها. وعلى كلٍّ لا مشاحة فيما ذهبوا إليه فكلنا شركاء في الوطن وفي نصرة هذه الثورة المجيدة وإن اختلفت رؤانا واجتهاداتنا.

2. لقد تشرفت بالانضمام للحكومة الانتقالية كوزير لهذه الحقيبة المهمة، وأنا صاحب مشروع اقتصادي عملت على تطويره عن طريق الأبحاث الأكاديمية والسياسوية، إضافة إلى خبرتي العملية خلال الثلاثين عاماً الماضية، حيث أعددت حوالي 26 ورقة عن الاقتصاد السوداني نُشرت في دوريات وكتب محكمة، إضافة إلى أربع مساهمات لعامة القُرّاء والرأي العام كانت أولها في العام 1994 وقُدمت في القاهرة للورشة الاقتصادية لقوى “التجمع الوطني الديموقراطي” المعارض آنذاك.

وكانت المساهمة الثانية بعنوان “البديل الوطني: البرنامج الاقتصادي” والتي استعرضتها في مؤتمر قوى المعارضة السودانية في أغسطس 2011م بدار حزب الأمة القومي بأم درمان، بينما تعرضت الورقة الثالثة في فبراير 2018م بالتحليل النقدي لنظام “سعر الصرف المدار” وأخيراً جاءت الورقة الأخيرة الموسومة “حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب” كمرجعية لمنهج الثورة الاقتصادي (في يناير 2019م) لتطرح برنامجاً اقتصادياً نهضوياً رأيت أنه يلبي تطلعات ثورة ديسمبر المجيدة، مستلهماً شعار الثورة الأبرز “حرية سلام وعدالة”.

3. لقد خلصُت إلى أن علينا أن نتوفر على وصفة سودانية تستهدي بمنهج علمي مدروس، وتستصحب عصارة التجارب الدولية الناجحة الملائمة للأوضاع السائدة في الإقتصاد السوداني، فضلاً عن أن برنامجاً كهذا يجب أن يحظى بدعم معظم القوى الاجتماعية والسياسية بالبلاد وأيضاً بتعاون مجتمع التنمية الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق جاء إطار “خطة نهضة السودان الاقتصادية: 2020-2030” والذي تحدثت عنه كثيراً في بدايات عهد الحكومة وحاولت الترويج له بكيانات إعلامية ومهنية وأكاديمية مهتمة بالاقتصاد والذي تمخضت عنه ثلاثة محاور أساسية على صعيد البرامج السياسوية:

أولاً: معالجة أزمة الاقتصاد السوداني لا بد أن تبدأ بإصلاح تشوهات الاقتصاد الكلي المترتبة على الدعم السلعي وتعدد أسعار الصرف وتسيد الأنشطة الطفيلية المرتبطة بالسوق الموازي للنقد الأجنبي – بالمناسبة لقد درج التقليد في الأدبيات الأكاديمية على استخدام تعبير “الموازي” بدل عن “الأسود” ليس تلطفاً ولكن لأنه يحمل دلالات عنصرية.

ثانياً: بذات الوقت من الأهمية بمكان تطوير رؤية للاقتصاد السياسي تستند إلى استنتاج مفاده أن إصلاح الاقتصاد الكلي لا بد أن يأتي في إطار مشروع متين للعدالة الاجتماعية والإنتاج والإصلاح المؤسسي: ترشيد دعم المحروقات يأتي في إطار مشروع للانتقال من دعم السلع لدعم المواطن مباشرة: الهيكل الراتبي الجديد، هيئة التحول الرقمي ومشروع دعم الأسر.

إصلاح نظام سعر الصرف وصولاً لتوحيده، وهو في واقع الأمر أكبر رافع للتحول من الاقتصاد الاستهلاكي والطفيلي إلى الاقتصاد المنتج.

كفاءة إدارة الاقتصاد لا تتحقق فقط بالحوكمة الرشيدة والإصلاح المؤسسي، بل لا بد أيضاً أن تستند إلى تفويض كامل للصلاحيات من طرف مستويات السلطة الدستورية والتنفيذية العليا ليتسنى لها التركيز على الإشراف العام وبناء الخطط والرؤى الاستراتيجية.

ثالثاً: البداية من حيث الرؤية والبرامج لا بد أن تكون سودانية خالصة ولكن للخروج من حفرة عمقها ما يناهز 60 ملياراً من الدولارات لا بد من البحث عن دعم الشركاء وهذا ما حققناه في مبادرات أصدقاء السودان والتي تُوِجت بمؤتمر الشركاء واتفاقية الـ SMP.

4. لا شك أننا في وزراة المالية والحكومة بصفة عامة لم يحالفنا التوفيق في تحقيق كثير من الأهداف المرجوة في اطار زمني قصير، ولكن بلا شك هناك إنجازات كبيرة تحققت بفضل وضوح الرؤيا وقوة المنهج، تحدث عنها بإسهاب الكثير من الكُتاب خلال الأسبوعين الماضيين، ولا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها في هذا السياق.

5. لعل الجانب ذا العلاقة المباشرة بهذا البيان هو أنني أيضاً أدرك جيداً أهمية التفويض الكافي لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لتمكينها من تنسيق وقيادة عملية الإصلاح الاقتصادي بعد السنوات المتطاولة من سوء إدارة الاقتصاد والتجريف الممنهج لولاية وزارة المالية علب الموارد والمؤسسات الإيرادية العامة. وهناك تجارب مستفادة في هذا الخصوص من دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية في عقد التسعينيات، حيث أُسندت صلاحيات استثنائية لوزراء المالية لتمكينهم من تنسيق وقيادة الصلاحات الاقتصادية العميقة التي كانت تحتاجتها تلك الدول. وفي هذا السياق فقد تفاكرت مع الأخ رئيس الوزراء عدة مرات خلال الأشهر الماضية، بدأت أولها في أغسطس من العام الماضي، عندما أخبرني بعزمه تكليفي حقيبة المالية. وكنت وما زلت أعتقد أن الملفات المتعددة والحساسة التي يشرف عليها السيد الرئيس تجعل من الأهمية بمكان تفويض بعض الصلاحيات المهمة للوزراء الذين يتولون قيادة القطاعات الوزارية، كالقطاع الاقتصادي على وجه الخصوص. وفيما يلي هذا القطاع فهناك جزر معزولة من الشركات والهيئات والصناديق في بعض الوزارات محمية بتشريعات تمكنها من الإستمرار في تجنيب الإيرادات وصرفها دون إشراف وزارة المالية ما أدى إلى عدم تمكننا من إدارة السيولة وتوظيفها حسب أولويات وحاجات الاقتصاد السوداني.

6. كنت أثير القضايا الآنفة الذكر كأفكار وهواجس في إطار التشاور مع الأخ الرئيس – الذي تجمعني به علاقة شخصية ومهنية لما يربو على ربع قرن من الزمان – كان آخر اللقاءات في اجتماع يوم الخميس، الموافق الثاني من يوليو والذي تم بناءً على طلبي بالنظر لإحساسي بأن المرقد أصبح أكثر إلحاحاً بعد اتفاق الـSMP. لقد كنت أكثر وضوحاً في هذا الاجتماع الأخير، حيث طلبت من الأخ الرئيس أن يجدد مساحة وطبيعة الملفات الاقتصادية التي يرى أن تكون تحت إشرافه المباشر وعن طبيعة المهام التي سيضطلِع بها مستشاروه الاقتصاديون وذلك بغرض تعزيز التكامل وتفادي تضارب الصلاحيات، بينما حاولت أيضاً إقناعه بضرورة منحي، كوزير مالية، صلاحيات تنسيقية كافية لكي أقود عملية إنفاذ برامج الـ SMP المتفق عليها خلال الستة أشهر القادمة. هذا وقد أتت هذه المقتراحات في ظل تباينات قد حدثت بيننا في بعض القضايا المهمة، حيث كنت أرى أن رأىِ الفني المتخصص لم يَحظَ بالاحترام الذي يستحق. وعليه رأيت أن على السعى لتعزيز الانسجام وتفادي خلافات كبيرة في وجهات النظر في المستقبل، خاصة وأن الفترة القادمة يفُترض أن تشهد قرارات صعبة من المأمول أن تفُضي إلى تحولات اقتصادية عميقة. أيضاً قد عبرت للأخ الرئيس بأنني على استعداد، إذا لزم الأمر، لأفسح المجال له لاختيار من يراه أكثر توافقاً مع رؤيته ومنهجه لإدارة الاقتصاد بينما أشرت بأن لي خيارات أخرى متاحة للمساهمة في العمل العام. وفي ختام الاجتماع شكرني على صراحتي ووضوح المقترحات التي طرحتها ووعدني بالتفكير فيها وإفادتي، واتفقنا أيضاً على عرض مسودة SMP والموازنة المعدلة الناجمة عنه، إضافة إلى ورقة تسعير المحروقات على مجلس الوزراء لجازتها خلال الأسبوع التالي.

7. ولكن قبل مواصلة الحديث بشأن ما حدث في الأسبوع التالي، أتوقف قليلاً عند برنامج الـ SMP ومدى أهميته لمستقبل البلاد الاقتصادي والسياسي وعلاقته بالتفويض الذي تحدثت عنه. هذا البرنامج يأتي كمعب وحيد لتحقيق التنمية القومية الشاملة وإحداث التحولات المنشودة، حيث نصت الوثيقة الدستورية على “معالجة الأزمة الاقتصادية بإيقاف التدهور الاقتصادي والعمل على إرساء أسس التنمية المستدامة وذلك بتطبيق برنامج اقتصادي واجتماعي ومالي وانساني لمواجهة التحديات الراهنة” الوثيقة الدستورية، الأولوية رقم 2. وفي هذا السياق يمثل هذا البرنامج حزمة متكاملة من الإصلاحات المؤسسية وسياسات الاقتصاد الكلي والتي تم التفاوض حولها على مدى أسبوعين، حيث تطابقت معظم عناصر هذا البرنامج مع أولوياتنا الوطنية التي تم معالجتها في اطار قرارات لجنة الطوارئ الاقتصادية العليا. وبافتراض أن إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب أصبحت قريبة المنال، فإن تنفيذ هذا البرنامج سينقل البلاد إلى آفاق غير مسبوقة تنفض عنَاصر تركة الإنقاذ الاقتصادية الكارثية في خلال ستة إلى ثمانية شهور فقط، حيث يتُوقع: الانضمام لمبادرة الدول قليلة الدخل، المثقلة بالديون HIPC، لعفاء ديون السودان البالغة 56 مليار دولار والتي يتوقع أن تُفضي إلى أقل من 15 مليار.

تسديد متأخرات الديون لمنظمات التمويل الدولية وإعادة الانضمام للجمعية الدولية للتنمية IDA وتقديم منحة سنوية بحوالي مليار دولار كدعم مباشر للموازنة.

تدفق الاستثمارات المؤسسية على سبيل المثال من قبل مؤسسة التمويل الدولية بالبنك الدولي وصندوق التنمية الأفريقي ببنك التنمية الأفريقي التي عادة ما توفر التمويل لمشاريع التنية الاستراتيجبة، وبذات الوقت تمكنت الدول من استقطاب الاستثمار الخاص.

8. في الأسبوع التالي لم أسمع شيئاً عما تم الاتفاق عليه في اجتماع الخميس، مما دفعني في محادثة هاتفية مع السيد الرئيس ظهر الثلاثاء، الموافق السابع من يوليو، بتذكيره باتفاقنا بشأن إجازة تفاهمات برنامج SMP ومواصلة الحوار حول القضايا الأخرى التي أثرتها معه. وعدني الأخ الرئيس بدعوة المجلس بالأربعاء ولكن لم يحدث ذلك.

الذي وردني صباح الأربعاء شيء آخر يتعلق بخبر موثوق بأن هناك ترتيبات كانت تجري وراء الكواليس وبتكتم شديد للتفاهم مع شخص من داخل الوزارة وعلى دراية بمفاوضات SMP ليصبح وزيراً مكلفاً بديلاً عني عندما يأ تي الوقت المعلوم.

بالطبع لم يزعجني هذا الأمر لأنني كنت قد قرأت ماذا يريد الرئيس من حيثيات “عدم الفعل” الذي اتسم به موقفه وبناء عليه حزمت أمري بأنني لا بد أن أغادر وأصِر على ذلك. لكن الذي أحزنني أنني كنت أقارب هذه القضايا المهمة بصراحة وشفافية ولكن تم التعامل معي بأسلوب آخر.

9. لهذا عندما انعقد الاجتماع الطارئ يوم الخميس، الموافق التاسع من يوليو، رحبتُ مع زملائي بفكرة الاستقالات الجماعية التي طرحها الرئيس، خاصة وأنني كنت قد تقدمت بمقترح في الموقع (غير الرسمي) الخاص بأعضاء الحكومة في السابع والعشرين من يونيو، عبرت فيه بأنه “قد حان وقت المواجهة (كنت أقصد المصارحة) مع الشعب وأيضاً وقت القرارات الصعبة. إن رأيي الشخصي أننا كوزراء يجب أن ننظر في فكرة تقديم استقالات جماعية للسيد رئيس الوزراء وإتاحة الفرصة له بدون أي حرج بالتشاور مع الحاضن السياسي (أو الحواضن السياسية إذا توخينا الدقة) واختيار من يراه مناسباً للمرحلة القادمة من داخل وخارج الوزارة الحالية”.

بعد تقديم الاستقالات اجتمع السيد الرئيس مع الوزراء، كلاً على حدة، وعندما أتى دوري كنت على بينة من أمري تماماً وقررت أن يكون اللقاء ودياً وسلساً وذلك لأنني لم أكن أرغب في الحديث عما جرى من خلفي فذلك الظرف لعمري لا يحتمل التلاوم وقررت أن أتغابى عما حدث تأسياً بقول أبى تمام:

ليَسَ الغبَيُّ بِسَيد في قوَمِهِ … لكِن سَيِدُ قوَمِهِ المتُغَابي

خاتمة:

10. لقد كتبت ما كتبت وأنا مُثقَل القلب وكلي أملٌ بأن يُنظر إلى افادتي أعلاه كأحد الدروس المستفادة لمستقبل الأيام وأن نمضي في شأننا، حكومة وشعباً، للتفكير في المستقبل، فأنا وغيري من الإخوة الوزراء الذين ترجلوا ستتُاح لنا آفاقٌ رحبة لتقديم ما نستطيع لبلادنا من مواقع أخرى.

أرجو في الختام أن أتقدم بالشكر والتقدير لقيادة قوى الحرية والتقدير وتجمع المهنيين والأخ رئيس الوزراء على تشريفي بالعمل في حكومة الثورة خلال الفترة السابقة، سائلاً المولى العزيز القدير له وحكومته الموقرة التوفيق والسداد.

والله من وراء القصد..

whatsapp
أخبار ذات صلة