عاطف حسن: العين بصيرة.. والليد قصيرة: قراءة بين الإعسار المشروع والوفاء الممكن
العين بصيرة.. والليد قصيرة: قراءة بين الإعسار المشروع والوفاء الممكن
كتب- عاطف حسن يوسف
في البدء لا يفوتني أن أتوجه بخالص الشكر والتقدير إلى أصدقائي محاميّ المسيد الذين استوضحتهم في بعض النقاط القانونية الواردة في هذا المقال فأفادوني مشكورين بما فتح لي أبواب الفهم ووسّع دائرة التناول فكان لهم فضل المشاركة المعنوية في صياغة هذا الجهد
حين تدهم المجتمعات نوازل غير متوقعة كالحرب والكوارث الكبرى تتبدل الأحوال بين عشية وضحاها.. يفيق الناس على واقع جديد تتراجع فيه الأولويات وتُخدش فيه العلاقات وتصبح كثير من الالتزامات المبرمة سابقاً رهينة الظرف ومعلّقة في فضاء قانوني وأخلاقي شائك.. ومن أبرز ما يتجلى في هذا السياق مسألة الديون والالتزامات المالية والاجتماعية بين الأفراد التي ما عادت تستقيم على منطق واحد ولا تحتكم لقانون واحد بل تتنازعها النصوص والنيات والقانون والضمير
يطرح الواقع أسئلة ضاغطة.. هل تُهلك الديون قانوناً بسبب الحرب؟
وهل يسقط الحق بالتقادم أو الإعسار؟
أم أن الوقائع القانونية تملك وجهة نظر أخرى؟ هذه الأسئلة ليست بسيطة.. بل تتطلب قراءة متأنية ضمن قواعد العذر الطارئ والظروف القاهرة .
في القانون المدني.. الإعسار قد يكون سبباً مشروعاً لإعادة النظر في الالتزامات.. لكنه لا يُسقط الحق تلقائياً.. فالأصل أن الدين لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء أو التقادم.. وهذه الأخيرة تستوجب مرور فترة زمنية تحددها القوانين الخاصة بكل نوع من أنواع الديون.. لكن الحرب كظرف طارئ قد تُجمّد سريان التقادم أو تُبرّر التأخير في الوفاء.. لكنها لا تُعدم أصل الحق ما لم يصدر القاضي المختص حكماً بذلك.. وللقاضي هنا سلطة تقديرية يوازن بها بين الحق الثابت والظرف القاهر .
ومن هنا تتفرع أسئلة لا تقل عمقاً.. هل يحق للدائن المطالبة بدينه بعد عودة الاستقرار؟
ما هي حدود الإعسار المقبول؟
وهل يُشترط الإثبات الكامل للفقدان؟
وهل يجوز تنفيذ الحجز على ممتلكات لم يبق منها شيء إلا الأثر والذكرى؟
هذه الأسئلة تفتح الباب أمام ما يُعرف بإعادة التفاوض على الالتزام.. أي أن يُعاد تشكيل الالتزام بما يتلاءم مع تغير الظرف وتبدل الأحوال
أما الالتزامات الاجتماعية فهي شأن آخر.. تسكن في منطقة رمادية بين الواجب الأخلاقي والاختيار الشخصي.. فحين يُدينك صديق أو يمدّ لك قريب يده في ضيق لا يوثّق ذلك بورقة ولا يسنده عقد بل هو في جوهره عقد شرف.. لا تدعمه المحاكم ولكن تحتفي به الأخلاق
في زمن الحرب تتعرض هذه الروابط للامتحان.. هل من الإنصاف مطالبة الرفيق بما لا يملك؟
وهل من المروءة التذرع بالخراب لتجاهل المعروف؟
وما دور المجتمع في تشكيل ضغط أخلاقي يُعيد التوازن؟
إن الالتزام الاجتماعي لا يُقاس بنص القانون بل بنبض الوجدان.. فبعض الديون تُردّ بالكلمة الطيبة وبعضها يُجبر بصبر الدائن وحياء المدين
القانون وإن بدا صلباً إلا أنه كُتب ليطبّق على بشر وهم لا يعيشون في فراغ بل في سياق.. !! لذا فإن العدالة ليست في مجرد المطالبة بالحق بل في النظر الكلي للمآلات.. وفي هذا السياق يمكن القول إن الحرب تُنبت نوعاً جديداً من العلاقات تنكسر فيها النصوص أحياناً لصالح قيم أسمى.. الرحمة.. التراحم.. الإنصاف
وهنا يحق لنا أن نسأل.. هل على المشرع أن يُدخل استثناءات واضحة لحالات الحروب في قوانين الالتزامات؟
وهل للمجتمع المدني دور في التحكيم الأهلي أو الوساطة الأخلاقية؟
وكيف نبني أعرافاً جديدة تراعي الظرف دون أن تهدم ثقة الناس في مبدأ الوفاء؟
بين الدائن والمدين يقف القانون شاهداً.. لكن ليس وحيداً.. فالضمير الإنساني والتقاليد المجتمعية والوعي الجمعي كلها تشارك في تحديد مصير الالتزامات.. وفي زمن الحرب نحن أحوج ما نكون إلى قانون أكثر مرونة وعدالة أكثر إنسانية ومجتمع لا يُفرّط في الحقوق ولا يُنكر الجميل
لقد آن الأوان أن نكتب عقودنا بمداد القانون ونختمها ببصمة الضمير
فما بين الأرقام الباردة توجد قلوب أنهكها الفقد.. رجال دفنوا دفاترهم تحت الأنقاض.. نساء جفّت أعينهن من الحياء والخجل.. وآباء ما عادوا ينامون الليل خوف أن يُنادى عليهم في الناس بعنوان “مماطل” وهم كانوا بالأمس أهل وفاء وكرم
هب أن الدين حق.. أليس التنازل عنه في وقت الضيق من مكارم الأخلاق؟ أليس جبر الخاطر من أعظم القيم؟
إن التنازل لا يعني الضعف.. بل يدل على سمو النفس واتساع القلب.. فكم من دين سقط وبقي صاحبه في القلب مخلّدًا.. وكم من إلحاح على الوفاء أورث القطيعة والخذلان .
وفي مأثور الحكم:
من سامح فقد ملك.. ومن عفا فقد ارتقى بنفسه فوق الموازين
فلنجعل للرحمة موضعا في حساباتنا.. وللتجاوز مساحة في معادلاتنا.. فزمن الحرب ليس فقط اختباراً للقانون.. بل امتحانا لقلوب البشر .