البوني يكتب من داخل القاهرة 

70

البوني يكتب من داخل القاهرة

كنت أحب عبد الناصر

عبد اللطيف البوني

سبق أن مررت على القاهرة عدة مرات.. وفي فترات متباعدة… وكانت كلها خاطفة … إذ لم يسبق لي ان قصدتها… ففي السبعينات كنت في رحلة طلابية قادما من العراق.. وفي التسعينات كنت قادما من الولايات المتحدة.. وفي العقد الأول من هذا القرن كنت قادما من الكويت.. وكانت أقصى مدة امكثها فيها ليلتين بين المطار ووسط المدينة… عليه اعتبر زيارتي الحالية للقاهرة والتي قاربت الان الثلاثة أشهر هي زيارتي الأولى للقاهرة… ومنذ ان دخلتها لم اخرج منها…. ولكنني تحاومت في معظم احيائها…. إذ ان المناسبات الاجتماعية السودانية في القاهرة من وفيات واعراس وسمايات وزيارة مستشفيات وسلامة الوصول….. لاتقل عن تلك التي كنا نغشاها في السودان… فيخيل إليك ان كل السودان هنا…

وكما غشيت بعض المنتديات الفنية و الثقافية والفكرية السودانية… وبهذة المناسبة تحضرني طرفة الشاعر ابو آمنة حامد مع الفنان صالح الضي… إذ كانا يسكنان معا في القاهرة في السبعينات….فجاء ابو آمنة بعد منتصف الليل فايقظ الضي فقال الاخير للأول ياخي دا وقت ونسة خلينا ننوم… فرد ابو آمنة ياخي انا في القاهرة بتونس مع كامل الشناوي واحمد رامي دايراني اتونس معاك ؟… انت تقوم تشيل العود وتغني بس… لكن السودانيون اليوم جاءوا القاهرة بشناويهم وراميهم إذ شهدت ليلة شعرية في نادي الفنانين السودانيين في قلب القاهرة احياها الشاعران الكبيران التيجاني الحاج موسى وعبد القادر الكتيابي…

مصر كانت ومازالت هي كبانية الادب والفكر والفن في العالم العربي… ونحن في السودان الأكثر نهلا منها وتاثرا بها في تلك المجالات… ليس بعد انتشار الوسائط الإعلامية الحديثة بل قبل ذلك بكثير… واشار الي ذلك المؤرخ الانجليزي ب. م. هولت في كتابة تاريخ السودان الحديث Modern History of Sudan.. حيث قال ان السودان دون سائر العرب و الأفارقة محظوظ لقربه من مصر.. لأنها مركز ضغط ثقافي عالي … رغم ان هولت كان من سدنة السياسية الانجليزية في السودان. والتي جعلت فصل البلدين هدفها الأعلى ونجحت في ذلك…

كنت اظن وليس كل الظن اثم أنني لن أجد في القاهرة ما يدهشني أو يعطيني قناعة جديدة بحكَم عوامل موضوعية وذاتية فمن حيث الموضوع وكما هو حال معظم السودانيين من جيلي فقد كنت ومازلت متابعا لما تنتجه النخب المصرية ومن أدب وفكر وفن وسياسة اما من ناحية ذاتية فأنا قد تجاوزت الستين ووصلت ما تسمى بالحالة الملوكية Royal level وهي مايقول فيها علماء النفس انها المرحلة التي تنعدم فيها الدهشة إذ تتساوى فيها المواقف من المفرحات والمبكيات ويقابل هذا في الدوبيت السوداني (الليل والنهار واحد على العميان واللوم والشكر واحد على السجمان)……..

منذ أن دخلت القاهرة الي يوم الناس هذا لم اجلس امام تلفزيون ولم استمع إلى راديو وأم اقرأ اي جريدة ورقية إذ ابحلق في شاشة الهاتف كلما وجدت الي ذلك سبيلا. كما هو حال الكثيرين… ولم تجمعني اي مناسبة بمسؤل مصري ولا اي شخص من النخب المصرية حتى كتابة هذة السطور… اللهم الا الأستاذة اسماء الحسيني الصحفية المصرية المعروفة باهتمامها بالشان السوداني وصداقاتها السودانية .. إذ التقيتها لقاء عابرا بمقر إقامة استاذتنا الغالية بخيتة امين بمناسبة تدشين كتابها (جرة قلم) ولكنني غشيت الكثير من مقاهي القاهرة الشعبية وتسكعت كثيرا في طرقاتها راجلا وتعاطيت كل وسائل المواصلات فيها من مترو الي ماكروبص الي مايكروبص الي تاكسيهات طلب خاص… وصليت في الكثير من مساجدها بداء بالحسين والسيدة زينب… كلما التقي بأحد الأخوة السودانيين.. الذين حدفت بهم الحرب الي مصر… كنت حريصا على معرفة انطباعه عن مصر قبل مجئية وبعد مجئية… اصدقكم القول اني وجدت في القاهرة ما ادهشني وهز بعض قناعاتي القديمة.. وليس من راي كمن سمع..

اجيكم من الاخر ولكن لاحقا سأعود بكم الي كل ماتقدم أعلاه.. فقد كنت من المحبين لعبد الناصر حبا لايضاهيه حبا لزعيم سياسي اخر… والحب درجة فوق الاتباع و فوق الإعجاب… و الليحب ما يكرهش كما تقول المسلسلات والأفلام المصرية…. ولكنني اتساءل الان وبالحاح… رجل في وحدوية و قومية عبد الناصر لماذا قبل باتفاقية الحكم الذاتي للسودان في ١٢ فبراير ١٩٥٣..والتي بموجبها تخلت مصر رسميا عن أي شكل من أشكال الوحدة مع السودان؟ هل لان هذا مطلب السودانيين؟ ام ان في الامر صفقة ما؟

المعلوم ان اتفاقية الحكم الثنائي الخاصة بالسودان… الموقعة في ١٩بناير ١٨٩٩… وكذا سميت اتفاقية بطرس/كرومر…. اعتبرت مصر شريك أعلى في حكم السودان مع الانجليز (في الورق فقط)… ولكنها عمليا جعلت الانجليز هم حكام السودان الفعليين فلحاكم العام ترشحه بريطانيا ويصدق عليه خديو مصر…. وهو الكل في الكل في حكم السودان لذلك اعتبرها الوطنيون المصريون.. خاصة قادة الحزب الوطني… انها خيانة وطنية عظمى لانها فكت الارتباط نهائيا بين البلدين… وما عبارة انهاء السيادة المصرية على السودان… الا لدغدغة المشاعر السودانية… التي كانت نائمة في ذلك الوقت… وقد فطن لذلك حزب الأشقاء السوداني وفيما بعد الحزب الوطني الاتحادي… لذلك كان مصرا على الوحدة مع مصر… ولكنه انقلب على ذلك ولحق بجماعة السودان للسودانيين… وهذة قصة ثالثة

لقد جئت للقاهرة حاليا وبقلبي تمور كل ماسي وويلات الحرب التي تدور في السودان الان… وكل الانقسامات الرأسية والافقية في السودان… هذا في القلب…. اما العين فتقع الان على مجتمع القاهرة المبهر… فحاصل جمع وطرح المسافة بين القلب والعين تجعلني اقول لو ان السودان ظل كجزء من مصر حتى يوم الناس هذا… لما انفصل الجنوب عن الشمال في ٢٠١١… ولما كانت المهددات القبلية والعنصرية بالحدة نعانيها الان… طبعا هذة الفرضية تحتاج إلى إثبات من جانبي…. فخليكم معانا ان شاء الله… ولا تتسرعوا في الحكم فأنا لست من دعاة تفكيك السودان… ووحدته غاية اعمل لها بكل ما أوتيت من أدوات….

whatsapp
أخبار ذات صلة