عبد اللطيف البوني يكتب عن “شلة قاسم.. فاطنة الشمارة”

6

شلة قاسم.. فاطنة الشمارة
مائة يوم في القاهرة (٤)

عبد اللطيف البوني

أجد نفسي من أنصار المدرسة الفنية التي اخطتها الأستاذان الراحلان السر قدور. وعيسى الحلو والتي تقول ان العنصر الأساسي في الغناء هو الأداء… وبعد ذلك ياتي اللحن ثم الكلمات.. فصوت المغني وطريقة أدائه هو الباعث الأول للطرب.. لذلك لا يوجد غناء هابط ولا غناء صاعد.. وكما قال الفيتوري كل كلمة في موقعها جميلة مهما كان معناها.. ولراحلنا المقيم عبد الله حمدنا الله دراسات قيمة في أغاني البنات ووصفها بأنها هي كشافة المجتمع الحقيقية.. فمن لم يسمع الكابلي وابو داؤد وزيدان إبراهيم في الغناء المسمى دكاكيني (نص عمره ضائع) وفي رواية أخرى كل عمره..
مناسبة هذه الرمية هي أنني هذة الأيام استمع كثيرا لأغنية بناتية دكاكينية منتشرة انتشارا شديدا في الميديا السودانية تجدها في أرقى القروبات.. لما فيها من أداء رائع وموسيقى خفيفة ولا تخلو كلماتها من مضامين اجتماعية.. تلك الأغنية التي يقول مطلعها (نقل الموية من البيارة / عواسة الطريقة بملاح كرارة) لفت نظري فيها (دكان علوي الجنب الجزار) إلى بقالات القاهرة المنتشرة فهي عبارة عن خلية نحل تجد البقالة متكظة بالمستهلكات اليومية (حدها السقف) وممتدة في الرصيف حيث الأشياء قليلة الثمن.. يقوم عليها نفرين ثلاثة.. وتعمل أربعة وعشرين ساعة والله تمنيت أن أرى واحدة من تلك البقالات التي أمر عليها يوميا مغلقة.. مثل دكان علوي عندنا حيث يعمل بمزاجه وفي الأقاليم أصبحت الدكاكين منتديات لناس شلة قاسم الفارغة وليس لها أي شغل أو مشغلة إلا الشمارات و(حلاة البن جبنة من سارا) .. شارع بورسعيد في وسط القاهرة يسمى شارع الشحن إذ تحمل منه الشاحنات لكل أرجاء مصر والي الدول المجاورة بما فيها السودان هذا الشارع يعمل من العصر إلى صباح اليوم التالي.. هكذا يتغلبون على سخانة الطقس بالعمل الليلي ويلفت نظرك فيه قوة ونشاط العامل المصري فتجده يجري على السلم وفي ظهره حمولة تتجاوز المائة كيلو جرام…
لا توجد كوار تجرها الخيول والحمير في وسط الأسواق (سيد الكاره اسرع لي الشمس حاره)… فما نسمية نحن الكوار هنا يجره ابن آدم فتجد الواحدة محملة بما لا يقل عن طن.. ولكنها مصممة هندسيا بصورة تجعل سحبها أو دفها في شارع الأسفلت سهل جدا ولا يحتاج لقوة بدنية عالية رغم أن الأبدان هنا ما شاء الله عليها وكما قال أخونا المهل الطاهر (الناس دي هنا بتاكل صاح وتشتغل صاح) أما ما جاء في الأغنية المشار إليها (كيلو الباسطة كيلو العجالي) فهنا عادي ذي الزبادي والزبادي هذه على قفا من يشيل.. ياربي ما هي القيمة الغذائية لملاح الكرارة؟ لم أعرف القوقو الذي جاء في نهاية الأغنية.. قصدت أن أقول هنا أن إنتاجية العامل المصري عالية جدا مقارنة مع إنتاجية العامل السوداني..
حكي لي ابن عمي الطاهر أحمد الصديق قصة الصعايدي الذي عمل معه لمدة موسم واحد في حواشته.. بمشروع الجزيرة مكتب كاب الجداد.. إذ زرع معه خضروات في مساحة لا تتجاوز الأربعة فدان فكان لا يخرج من الحواشة الا للسوق لبيع الخضروات.. أقسم لي الطاهر أن القروش التي دخلت عليه في موسم الصعائدي هذا لم ير مثلها قبله ولا بعده.. وقدر ما حاوله الاستمرار معه رفض بحجة أن ما جمعه من مال بكفيه لإقامة المشروع الذي يوده في مصر..
أحد أولادنا الذين قذفت بهم الحرب إلى مصر والذي نزل سوق العمل لكي يكسب قوت يومه قال لي إنه يعمل 12 ساعة دون أن تنقص دقيقة مع عطلة يوم واحد في الأسبوع.. كان الأمر متعبا له في الأيام الأولى ولكنه اعتاد ذلك.. واختتم كلامه معي بالقول إن سوق العمل واسع جدا في مصر وفي مقدور أي شاب أن يعمل لكن مشكلتنا نحن فترانين.. فقلت له كمان اتكاليين أي نعتمد على غيرنا في كل شيء وكما قالت الأغنية المشار إليها حتى (الواي فاي من حسن جارا).

في إحدى تقارير منظمة العمل الدولية جاء أن متوسط نسبة الإعالة في السودان واحد الي سبعة عشر.. أما تقرير الامبوزمان فتقول متوسط عمل السوداني اليومي ستة عشرين دقيقة بينما بعض الدول متوسط عمل الفرد اليومي فيها يصل الثلاث ساعات.
في ذات ونسة مع أحد الحلاقين قال إن صالونه هذا عمره 103 سنة أي تجاوز القرن بثلاث سنوات وأنه ورثه عن أبيه الذي ورثه عن جده وهو يعمل 16 ساعة في اليوم.. يغلق من ستة صباحا إلى الواحدة ظهرا . الصالون مظهره الخارجي متواضع جدا… ولكن في الداخل أدي ربك العجب كل شيء فيه آخر صيحة… تذكرت الحكمة التي تقول (الثابتة نابتة).. ومن الواضح جدا أن الرجل يستثمر فوائض دخله في تطوير صالونه.. وهذه السمة واضحة في مصر فكبريات المستشفيات الخاصة يملكها أطباء وكذلك الشركات الهندسية يملكها مهندسون والمكاتب الاستشارية العالمية يملكها قانونيون… قصدت القول هنا أن كبار المهنيين يستثمرون في مجالات تخصصهم ومن هنا جاء التقدم المذهل في مجال الخدمات .. افتكر ما في داعي نتكلم عن استثمارات كبار المهنيين عندنا..
خلاصة قولنا هنا أن إنتاجية العامل المصري عالية جدا َبالتالي ارتفعت إنتاجية الفدان الزراعي المصرية والبقرة المصرية والمصنع المصري والمتجر المصري.. فالإنسان هو أساس التقدم والتطور.. اما لماذا ارتفعت إنتاجية العامل المصري دون غيره من شعوب الإقليم؟ فهذا يرجع لعوامل كثيرة نتركها لمناسبة أخرى.. ليس الغرض من هذا المنشور جلد الذات أو تكسير تلج إنما الغرض هو التنبيه إلى أننا في غفلة عن عيوبنا.. فالعوامل التي دفعت بالإنسان المصري لزيادة إنتاجيته توفرت لدينا ومن زمن ولكن بعض موروثاتنا وتقاليدنا والتي نراها حميدة قد حجبت عنا الرؤية.. إننا نحتاج لمراجعات كثيرة وعاجلة وإن شاء الله يكون المليون ونص الذين جاءوا مصر بسبب الحرب وهم الآن راجعين للبلد قد اخدوا كورس من الشارع المصري.

whatsapp
أخبار ذات صلة