النور حمد.. الخمور بين التربية والقانون .!!

631

عاش السودان منذ انهيار الدولة المهدوية في عام 1898 وإلى سبتمبر 1983 حالة من الاستقرار النسبي. ولم يكن هناك أي جدل حول مسألة تعاطي المشروبات الكحولية. لم تحظ هذه القضية بأي اهتمام، لا من المؤسسة الدينية الرسمية، التي كانت تقف على الدوام إلى جانب مختلف السلطات، ولا من الطرق الصوفية، ولا من عامة المواطنين. باختصار، لم تكن قضية تعاطي المشروبات الكحولية تحتل أي أولوية فيما تجري مناقشته من قضايا في المجال العام. فالبيئات السودانية، المختلفة، منذ الممالك الكوشية القديمة، وإلى يوم الناس هذا، عرفت صناعة الخمر في البيوت، بصورةٍ من الصور. بل ظل تناول المشروبات الكحولية ممارسًا بلا انقطاع، عبر التاريخ الإسلامي، بل وفي بلاط الخلفاء أنفسهم. (راجع كتب شوقي ضيف عن العصر الأموي والعصر العباسي). كما أوردت كتب الأحاديث، بأدلةٍ متواترةٍ، وبوضوح لا لبس فيه، أن النبيذ كان يُشرب حتى في صدر الإسلام. فموضوع شرب الخمر في الإسلام موضوعٌ جدليٌّ مختلفٌ عليه.

تطبيق الشريعة ومنع الخمور قضية جرها إلى دائرة الجدل السياسي، في السودان، تنظيم الإخوان المسلمين. فهي تمثل في نظرهم وسيلةً سهلة الامتطاء، سريعة الإفضاء إلى كرسي السلطة. لكن، بعد أن وصلوا إلى السلطة، وجلسوا في كراسيها ثلاثين عامًا، لم يطبقوا، ولا حكمًا شرعيًا واحدا. لم نر أيادٍ تُقطع، رغم السرقات التي تحدث كل يوم، ولا زانٍ أو زانيةً رُجما، ولا قاطع طريق جرى قطعه من خلافٍ، وصلبه. حين كان نميري حاكمًا، وقفوا وراءه بشدة في تطبيق العقوبات الحدية على الفقراء، ليحتمل هو وزرها، من سبتمبر 1983، وحتى سقوط نظامه في أبريل 1985. كان الهم هو الوصول إلى كرسي السلطة، وما أن وصلوه تركوا الشحن الديني الذي شحنوا به البسطاء، حول تطبيق الشريعة، يتبخر في الهواء. وهاهم الآن، بعد أن أُبعدوا عن السلطة، يعودون، كرَّةً أخرى، إلى عادتهم القديمة في إثارة البلبلة.

لا يختلف جَرُّ موضوع الخمر إلى دائرة الجدل السياسي، عن الحملة المفتعلة الخسيسة، التي أدت إلى حل الحزب الشيوعي عام 1965، وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان، ومحاكمة الأستاذ محمود بالردة عام 1968. أسلوب الحملتين واحد، وهو إثارة العاطفة الدينية لدى البسطاء، حتى يعموا عن رؤية واقعهم المجتمعي الحقيقي الذي يعيشونه. وهو واقعٌ ظل قائمًا دون أي تغيير، لآلاف السنين، ولم تستطع ولا الدولة المهدية، بكل نزعتها الطهرانية المفرطة، وحشرها أنفها في خصوصيات الناس، أن تغيره. على سبيل المثال، كان القائد المهدوي، النور عنقرة، يشرب خمره في بيته، الذي لا يبعد ميلاً من بيت الخليفة عبد الله. (راجع: مذكرات يوسف ميخائيل).

يقول الواقع التاريخي للشعوب السودانية، أن الناس ظلوا يصنعون، في كل أقاليم السودان، “الشربوت” و”الدكاي” و”المريسة” و” العسلية” وغيرها من المسميات، في المنازل، خاصةً في المناسبات. كما لم تخلُ، عبر التاريخ، قريةٌ أو مجموعة قرى متجاورة من أماكن لصنع وبيع الخمور البلدية. هذا واقع بالغ القدم، ولن تغيره القوانين المتعسفة، وجهالات المتشددين الدينيين، الذين لا يعرفون حرف الإسلام ولا روحه. هذا الواقع، يغيره الوعي، والتعليم، والتربية الدينية الصحيحة الحكيمة الموزونة، التي تتجه إلى ترفيع الشعور بالمسؤولية الفردية، وبالالتزام الداخلي بصحيح القيم. محاولة منع شرب الخمور بالقوانين لا تختلف في فشلها من محاولة خفض سعر الدولار بالقبضة الأمنية. فالضائع في هذا اللغو الباطل هو الحكمة. (يتواصل).

صحيفة التيار

whatsapp
أخبار ذات صلة